حمزة
30-03-2002, 23:15
هذه القصة .. إحدى روائع الشيخ الطنطاوي -رحمه الله-
عساها تعجبكم :)
قصة معبرة ورااااااااااااااااائعة
___________________________________________
كان آذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومئتين للهجرة، فهبط على تلك الذرى المباركة قعيقعان وأبي قبيس، فينساب مع نسيم البحر رخيا ناعشا، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت (محطة) بريد السماء، ومنزل الوحي، ومنبع رحمة الله للعالمين، حتى يمسح ستور الكعبة، فيتنزل على من في الحرم تنزل النفحات الإلهية على قلوب عباد الله المخلصين .
وكانت صفوف المؤمنين قائمة للصلاة تدور بالكعبة من جهاتها كلها، صفوف في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها، وتبصرها بقلوبها،تقوم وراء الجبال الشم والبحار، في المدن والقرى، والصحاري والسهول، والأودية والقمم، والأكواخ، والسجون و المغائر، في القفار المشتعلة حرا، و البطاح المغطاة بالثلج... تتسلسل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون.
**************
وأم أهل مكة الحرام، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين، وإن محطم ما عليه قميص مشدود بحبل، وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشدوا به بطونهم من طيبات الطعام، من كل حلوى وحامض، وحار وبارد، وسائل وجامد، ووقف يصلي وما يستطيع القيام من الجوع، فقد أمسك للصوم بلا سحور، ونام ليلته البارحة بلا عشاء، وأمضى أمسه من قبلها بلا غداء...
فلما قضى صلاته قعد على محرابه منكسرا حزينا، وما كان يفكر في نفسه فلقد طال عهده بالفقر حتى ألفه، وهون إيمانه الدنيا عليه حق نسي نعيمها وازدرائها، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله، وهو كاسبها و معيلها، وهذه المناكب العارية… ولو كان في مكانه رجل آخر قاسى الذي قاساه، و رأى الأغنياء يبذرون المال تبذيرا، و يضيع ون الألوف بالباطل، على حين يحتاج هو إلى الدانق فلا يجده .. لثار على الدنيا،وذم الزمان، وحقد على الناس، ولكنه كان رجلا مؤمنا، وأن الناس لا يملكون عطاء ولا منعا، وأن ما كان لكسوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، رفعت الأقلام و جفت الصحف.
فقال: آه. الحمد لله على كل حال؟
وقام فنزع القميص، و نادى: يالبابة. فجاءة امرأة متلفة بخرقة قذرة، فدفع إليها بالقميص و أخذ الخرقة فالتف بها… فقالت المرأة: يا أبى غياث، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاما، و هذا يوم صيام وحر… فإذا صبرت وصبرت أنا فإن البنات و العجوز لا يقدرن على الصبر، وقد هدهن الجوع، فاستعن الله، واخرج فالتمس لنا شيئا فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات ندخرها فطورنا.
قال: أفعل إن شاء الله.
**************
وانتظر حتى علت الشمس وكان الضحى، فخرج يجول في أزقة مكة وطرقها، وكان الناس قد انصرفوا إلى دورهم ليقيلوا، فلم يلق في تطوافه أحدا. واشتد الحر و تخاذلت ساقاه،وزاغ بصره، وأحس بجوفه يلتهب التهابا من العطش،و كان فد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار. وكان من أكبر أمانيه أن يدركه الأجل فيموت مؤمنا،فيتخلص من هذا الشقاء و ينال سعادة الأبد. و جعل ينكب التراب بيده،و هو سادر في أمانيه، فلمس يده شيء مستطيل لين فسحبها و نظر، فإذا هو بذنب حية مختبئة خلال التراب، فتعوذ بالله، ثم عاودته رغبته في الموت، وتمنى لو تلدغه فتريحه، ثم ذكر أنه لا ينبغي للمؤمن أيطلب الموت، وإنما ينبغي له أن يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وأمتني إن كان الموت خيرا لي. فقالها واستغفر الله. وعاد يرقب الحية فإذا هي ساكنة، فعجب منها،ولمسها برجله فلم تتحرك، فبحث عنها وحفر،فإذا الذي رآه حزام وليس بحية، فشده فجاء في يده (هميان) فيه الذهب، عرفه من رنينه وثقله، فأحس جوه وعطشه قد ذهبا، وكأن القوة قد صبت في أصابعه، والشباب قد عاد إليه … وتصور أن سيحمل أنه سيحمل إلى نسائه الشبع والراحة، ويملأ أيديهن مما كن يتخيلنه ولا يعرفنه من نعيم الحياة، ورغد العيش، وجعل يفكر فيم يشتريه لهن، وكيف يلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن، حتى كاد يخالط في عقله.
ثم تنبه في نفسه دينه،وعلا صوت أمانته يقول له: إن هذا المال ليس لك. إنما هي لقطة لابد لك من التعريف بها سنة،فإذا لم تجد صاحبها حلت لك.
وتصور لسنة وطولها وهو يبحث عن عشاء يومه.وهل يبقى حيا سنة أخرى؟ وهل تبقى أسرته في الحياة؟ وماذا ينفعه أن يكون الذهب له بعدما مات من الجوع، ومات معه من يرثه؟…وأحس كأن قواه قد خارت،وودّ لو أعاد الهميان إلى مكانه، ولم يكن قد ابتلي هذه البلية…ولكنه كان رجلا فقيها يعلم أن اللقطة إن مست فلا بد من التعريف بها،وإن هو أرجعها إلى مكانها وفقدت كان المسؤول عند الله عنها، أنا إذا لم يمسها فلا شيء عليه منها…و جعلت الأفكار تصطدم في رأسه، وتتراكض وتصطرع، حتى شعر أن عظم صدغيه سيتكسر من قرع الأفكار المتراكضة في رأسه، وطفق يسمع صوتا يهتف به أن: خذها فهي رزق ساقه الله إليك. ادفع بها الموت عن بناتك الائي أطاف بهن الموت.أشبع بها هذه الأكباد الغرثى. أكس هذه الأجساد العارية. ثم إذا أيسرت ردّها إلى صاحبها، أو دفعت إليه دنانير ناقصة لن يضره على غناه نقصها..
ثم يسمع هاتف دينه يقول له:اصبر يا رجل،و لا تخن أمانتك،و لا تعص ربك وعقد العزم على الصبر،واستعان بالله،وذهب إلى داره يخبأ الهمبان حتى يجيء صاحبه…أو يحكم الله فيه..
**************
ودخل الدار متلصصا، فرأته امرأته فقالت:
ما جاء بك يا أبا غياث؟
فال: لاشيء.وأحب أن يكتمها خبر الهميان،وما كان يكتمها من قبل أمرا.
قالت: بلى والله؛ إن معك شيئا، فما هو؟
فخاف أن تراه فيستطار لبها… فقص عليها القصة، وكانت امرأة تقية دينة،ولكنها أضعف منه إرادة،وأوهن عزم فقالت:
افتحه،وخذ منه دنانير اشتر لنا بها شيئا،فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة…
قال لا والله،ولئن مسسته أو أخبرت خبره أحد فأنت طالق.
وتركها مغيظة محنقة وخرج يبحث عن صاحبه، لعله يأخذ منه شيئا حلالا يدفع به الضر عن عياله.
**************
ومشى إلى الحرم،وكان فيه شاب طبري طالب علم.
فال الشاب الطبري:( فرأيت خراسانيا ينادي، يا معشر الحاج من وجد هميانا فيه ألف دينار فرده علي،أضعف الله له الثواب. فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد، فقال:يا خراساني، بلدنا فقير أهله،شديد حاله،أيامه معدودة،ومواسمه منتظرة،ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالا فيأخذه ويرده عليك.
قال: الخراساني: يابا كم يريد؟
قال العشر، مئة دينار.
قال: يابا .لا نفعل ولكن نحيله على الله تعالى).
وافترقا. قال الطبري: فوقع في نفسي أن الشيخ هو الواجد للهميان فاتبعته، فكان كما ظننت، فنزل إلى دار مسفلة زرية الاب والمدخل، فسمعته يقول: يا لبابة.
قالت: لبيك أبا غياث.
قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقا. فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئا، فقال: كم؟ قلت: عشره. فال: لانفعل، ولكنا نحيله على الله عز وجلّ، فإيش نعمل؟ لابد لي من رده.
فقالت له: نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة،ولك أربع بنات و أختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم).
يا أبا غياث إن الله أكرم من يعاقب رجلا يحيي هذه الأنفس.إنك لم تسرقه ولم تغصبه، واكن الله هو الذي وضعه بين يديك، فلا ترفض نعمة أنعم الله عليك. إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة…
قال الطبري: ونظرت في وجه الشيخ فأحسست مما بدا عليه أنه قد تصور بناته جائعات عاريات، والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحطبة الجوفاء، تتردد فيها الأنفاس، ففاضة نفسه رقة عليهن فسال دمعه على شيبته، ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه…ثم رأته يعبس وتبدوا عليه الصرامة لقد ودّ لو استعان بشيء من هذه الدنانير…ولكنه ذكر أنه صبر خمسين سنة فما كان ليضيع هذا كله في لذة يوم، وذكر أنه على شفير القبر، وأنه سيلقى الله، فما كان ليلقاه خائنا أمانته، أما عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأش، أما عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأشفق عليهم، وشد من عزمه ، وصاح بها:
( لست أفعل، ولا أحرق حشاشتي بعد ست وثمانين سنة).
قال الطبري: ( ثم سكت وسكتت المرأة. وانصرفت أنا).
**************
وأذن المغرب، وقعد الشيخ ونساءه على كسيرات وتمرات، التقطها لهم…وقعد الناس من حولهم على الموائد الحافلات بشهي الطعام،تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء، يأكلونها ويستمتعون بها،وينسون أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار، وأن الله ما فرض علينا الصيام للجوع والعطش والعذاب…ولكن ليذكرنا هذا الجوع الإختياري الموقوت، أن في الدنيا من يجوع جوعا إجباريا، لا حد له ينتهي عنده،وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنا،مذكر بالإحسان.
فمن يقعد على مائدته الحافلة بالطعام، وجاره يتلوى من الجوع، لا يفكر فيه، ولا يشاركه طعامه، فما صام ولا عرف الصيام، وإن جاع نهاره كله وعطش…
إن العادة تضعف الحس، وإن إلف النعيم يذهب لذتها،فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقد فنعرف حلاوة الوجدان، ولنشتهي في النهار لقمة من الخبز الطري، والجرعة من الماء البارد، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية، وهذه الجرعة الباردة، نعمة من النعم، فلا ندع الإحسان مهما كان قليلا، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها. ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه، فكان يترك منه كل يوم لقمة حتى إذا كان يوم الجمعة أكل اللقم وتصدق بالرغيف…
كان الشيخ يفكر في هذا،فيألم لما صار عليه حال المسلمين، ثم يذكر أن الله هو ملهم الخير،وصرف الأرزاق، فيحمده حمد رجل مؤمن راض.
وأمضى ليلته الرابعة بلا طعام، لأنه ترك التمرات والكسيرات العجوز و البنات يتبلغن بها…
**************
عساها تعجبكم :)
قصة معبرة ورااااااااااااااااائعة
___________________________________________
كان آذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومئتين للهجرة، فهبط على تلك الذرى المباركة قعيقعان وأبي قبيس، فينساب مع نسيم البحر رخيا ناعشا، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت (محطة) بريد السماء، ومنزل الوحي، ومنبع رحمة الله للعالمين، حتى يمسح ستور الكعبة، فيتنزل على من في الحرم تنزل النفحات الإلهية على قلوب عباد الله المخلصين .
وكانت صفوف المؤمنين قائمة للصلاة تدور بالكعبة من جهاتها كلها، صفوف في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها، وتبصرها بقلوبها،تقوم وراء الجبال الشم والبحار، في المدن والقرى، والصحاري والسهول، والأودية والقمم، والأكواخ، والسجون و المغائر، في القفار المشتعلة حرا، و البطاح المغطاة بالثلج... تتسلسل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون.
**************
وأم أهل مكة الحرام، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين، وإن محطم ما عليه قميص مشدود بحبل، وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشدوا به بطونهم من طيبات الطعام، من كل حلوى وحامض، وحار وبارد، وسائل وجامد، ووقف يصلي وما يستطيع القيام من الجوع، فقد أمسك للصوم بلا سحور، ونام ليلته البارحة بلا عشاء، وأمضى أمسه من قبلها بلا غداء...
فلما قضى صلاته قعد على محرابه منكسرا حزينا، وما كان يفكر في نفسه فلقد طال عهده بالفقر حتى ألفه، وهون إيمانه الدنيا عليه حق نسي نعيمها وازدرائها، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله، وهو كاسبها و معيلها، وهذه المناكب العارية… ولو كان في مكانه رجل آخر قاسى الذي قاساه، و رأى الأغنياء يبذرون المال تبذيرا، و يضيع ون الألوف بالباطل، على حين يحتاج هو إلى الدانق فلا يجده .. لثار على الدنيا،وذم الزمان، وحقد على الناس، ولكنه كان رجلا مؤمنا، وأن الناس لا يملكون عطاء ولا منعا، وأن ما كان لكسوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، رفعت الأقلام و جفت الصحف.
فقال: آه. الحمد لله على كل حال؟
وقام فنزع القميص، و نادى: يالبابة. فجاءة امرأة متلفة بخرقة قذرة، فدفع إليها بالقميص و أخذ الخرقة فالتف بها… فقالت المرأة: يا أبى غياث، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاما، و هذا يوم صيام وحر… فإذا صبرت وصبرت أنا فإن البنات و العجوز لا يقدرن على الصبر، وقد هدهن الجوع، فاستعن الله، واخرج فالتمس لنا شيئا فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات ندخرها فطورنا.
قال: أفعل إن شاء الله.
**************
وانتظر حتى علت الشمس وكان الضحى، فخرج يجول في أزقة مكة وطرقها، وكان الناس قد انصرفوا إلى دورهم ليقيلوا، فلم يلق في تطوافه أحدا. واشتد الحر و تخاذلت ساقاه،وزاغ بصره، وأحس بجوفه يلتهب التهابا من العطش،و كان فد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار. وكان من أكبر أمانيه أن يدركه الأجل فيموت مؤمنا،فيتخلص من هذا الشقاء و ينال سعادة الأبد. و جعل ينكب التراب بيده،و هو سادر في أمانيه، فلمس يده شيء مستطيل لين فسحبها و نظر، فإذا هو بذنب حية مختبئة خلال التراب، فتعوذ بالله، ثم عاودته رغبته في الموت، وتمنى لو تلدغه فتريحه، ثم ذكر أنه لا ينبغي للمؤمن أيطلب الموت، وإنما ينبغي له أن يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وأمتني إن كان الموت خيرا لي. فقالها واستغفر الله. وعاد يرقب الحية فإذا هي ساكنة، فعجب منها،ولمسها برجله فلم تتحرك، فبحث عنها وحفر،فإذا الذي رآه حزام وليس بحية، فشده فجاء في يده (هميان) فيه الذهب، عرفه من رنينه وثقله، فأحس جوه وعطشه قد ذهبا، وكأن القوة قد صبت في أصابعه، والشباب قد عاد إليه … وتصور أن سيحمل أنه سيحمل إلى نسائه الشبع والراحة، ويملأ أيديهن مما كن يتخيلنه ولا يعرفنه من نعيم الحياة، ورغد العيش، وجعل يفكر فيم يشتريه لهن، وكيف يلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن، حتى كاد يخالط في عقله.
ثم تنبه في نفسه دينه،وعلا صوت أمانته يقول له: إن هذا المال ليس لك. إنما هي لقطة لابد لك من التعريف بها سنة،فإذا لم تجد صاحبها حلت لك.
وتصور لسنة وطولها وهو يبحث عن عشاء يومه.وهل يبقى حيا سنة أخرى؟ وهل تبقى أسرته في الحياة؟ وماذا ينفعه أن يكون الذهب له بعدما مات من الجوع، ومات معه من يرثه؟…وأحس كأن قواه قد خارت،وودّ لو أعاد الهميان إلى مكانه، ولم يكن قد ابتلي هذه البلية…ولكنه كان رجلا فقيها يعلم أن اللقطة إن مست فلا بد من التعريف بها،وإن هو أرجعها إلى مكانها وفقدت كان المسؤول عند الله عنها، أنا إذا لم يمسها فلا شيء عليه منها…و جعلت الأفكار تصطدم في رأسه، وتتراكض وتصطرع، حتى شعر أن عظم صدغيه سيتكسر من قرع الأفكار المتراكضة في رأسه، وطفق يسمع صوتا يهتف به أن: خذها فهي رزق ساقه الله إليك. ادفع بها الموت عن بناتك الائي أطاف بهن الموت.أشبع بها هذه الأكباد الغرثى. أكس هذه الأجساد العارية. ثم إذا أيسرت ردّها إلى صاحبها، أو دفعت إليه دنانير ناقصة لن يضره على غناه نقصها..
ثم يسمع هاتف دينه يقول له:اصبر يا رجل،و لا تخن أمانتك،و لا تعص ربك وعقد العزم على الصبر،واستعان بالله،وذهب إلى داره يخبأ الهمبان حتى يجيء صاحبه…أو يحكم الله فيه..
**************
ودخل الدار متلصصا، فرأته امرأته فقالت:
ما جاء بك يا أبا غياث؟
فال: لاشيء.وأحب أن يكتمها خبر الهميان،وما كان يكتمها من قبل أمرا.
قالت: بلى والله؛ إن معك شيئا، فما هو؟
فخاف أن تراه فيستطار لبها… فقص عليها القصة، وكانت امرأة تقية دينة،ولكنها أضعف منه إرادة،وأوهن عزم فقالت:
افتحه،وخذ منه دنانير اشتر لنا بها شيئا،فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة…
قال لا والله،ولئن مسسته أو أخبرت خبره أحد فأنت طالق.
وتركها مغيظة محنقة وخرج يبحث عن صاحبه، لعله يأخذ منه شيئا حلالا يدفع به الضر عن عياله.
**************
ومشى إلى الحرم،وكان فيه شاب طبري طالب علم.
فال الشاب الطبري:( فرأيت خراسانيا ينادي، يا معشر الحاج من وجد هميانا فيه ألف دينار فرده علي،أضعف الله له الثواب. فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد، فقال:يا خراساني، بلدنا فقير أهله،شديد حاله،أيامه معدودة،ومواسمه منتظرة،ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالا فيأخذه ويرده عليك.
قال: الخراساني: يابا كم يريد؟
قال العشر، مئة دينار.
قال: يابا .لا نفعل ولكن نحيله على الله تعالى).
وافترقا. قال الطبري: فوقع في نفسي أن الشيخ هو الواجد للهميان فاتبعته، فكان كما ظننت، فنزل إلى دار مسفلة زرية الاب والمدخل، فسمعته يقول: يا لبابة.
قالت: لبيك أبا غياث.
قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقا. فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئا، فقال: كم؟ قلت: عشره. فال: لانفعل، ولكنا نحيله على الله عز وجلّ، فإيش نعمل؟ لابد لي من رده.
فقالت له: نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة،ولك أربع بنات و أختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم).
يا أبا غياث إن الله أكرم من يعاقب رجلا يحيي هذه الأنفس.إنك لم تسرقه ولم تغصبه، واكن الله هو الذي وضعه بين يديك، فلا ترفض نعمة أنعم الله عليك. إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة…
قال الطبري: ونظرت في وجه الشيخ فأحسست مما بدا عليه أنه قد تصور بناته جائعات عاريات، والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحطبة الجوفاء، تتردد فيها الأنفاس، ففاضة نفسه رقة عليهن فسال دمعه على شيبته، ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه…ثم رأته يعبس وتبدوا عليه الصرامة لقد ودّ لو استعان بشيء من هذه الدنانير…ولكنه ذكر أنه صبر خمسين سنة فما كان ليضيع هذا كله في لذة يوم، وذكر أنه على شفير القبر، وأنه سيلقى الله، فما كان ليلقاه خائنا أمانته، أما عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأش، أما عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأشفق عليهم، وشد من عزمه ، وصاح بها:
( لست أفعل، ولا أحرق حشاشتي بعد ست وثمانين سنة).
قال الطبري: ( ثم سكت وسكتت المرأة. وانصرفت أنا).
**************
وأذن المغرب، وقعد الشيخ ونساءه على كسيرات وتمرات، التقطها لهم…وقعد الناس من حولهم على الموائد الحافلات بشهي الطعام،تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء، يأكلونها ويستمتعون بها،وينسون أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار، وأن الله ما فرض علينا الصيام للجوع والعطش والعذاب…ولكن ليذكرنا هذا الجوع الإختياري الموقوت، أن في الدنيا من يجوع جوعا إجباريا، لا حد له ينتهي عنده،وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنا،مذكر بالإحسان.
فمن يقعد على مائدته الحافلة بالطعام، وجاره يتلوى من الجوع، لا يفكر فيه، ولا يشاركه طعامه، فما صام ولا عرف الصيام، وإن جاع نهاره كله وعطش…
إن العادة تضعف الحس، وإن إلف النعيم يذهب لذتها،فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقد فنعرف حلاوة الوجدان، ولنشتهي في النهار لقمة من الخبز الطري، والجرعة من الماء البارد، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية، وهذه الجرعة الباردة، نعمة من النعم، فلا ندع الإحسان مهما كان قليلا، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها. ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه، فكان يترك منه كل يوم لقمة حتى إذا كان يوم الجمعة أكل اللقم وتصدق بالرغيف…
كان الشيخ يفكر في هذا،فيألم لما صار عليه حال المسلمين، ثم يذكر أن الله هو ملهم الخير،وصرف الأرزاق، فيحمده حمد رجل مؤمن راض.
وأمضى ليلته الرابعة بلا طعام، لأنه ترك التمرات والكسيرات العجوز و البنات يتبلغن بها…
**************